إن من حسن عناية
الكاتب بقرائه و اهتمامه براحتهم أن لا يستخرج بعض مصطلحاته المستعصية على الفهم،
أو تلك التي تراوح مكانها في ذهن قارئها بين الإبهام المزعج و الفهم المشوب
باختلاط معنيين أو أكثر، أقول إن من حسن عنايته أن لا يستخرجها من بطون المعاجم ثم
يلقيها إلقاءً في مقاله لا يلقي لمتلقيها بالاً و لا يرى ضرورة لإشارة يشيرها إلى
معناها إما في الحاشية أو في فحوى حديثه. لذا فإن استعمالي لكلمة "الأقحاح"
في عنوان مقالي يستدعي أن أشير إلى معناها قبل بدء حديثي.
مفرد كلمة أقحاح هو قُحّ بضم القاف و تشديد الحاء، و جذر كلمة قح هو "قحح"، و القح هو الخالص من كل شيء، و العربي القح هو العربي الأصيل الخالص. الآن أدخل في صلب حديثي.
منذ عدة سنين، قد
تكون ستاً أو تزيد أو تنقص قليلاً، قضيت مع أهلي و على رأسهم جدي و جدتي عطلة أحد
العيدين في أحد فنادق مدينة العقبة التي نسميها في الأردن "ثغر الأردن الباسم". و لمثل
تلك العطل فوائد جمة، أولها قضاء المرء وقتاً لطيفاً مع أسرته بعيداً عن ضغوط
العمل و متطلبات البيت، و ثانيها أنه يتاح له إن كان من أهل التأمل أن يغرق في
سكينة البحر فجراً أو يسمع تلاطم موجه ظهراً أو ينظر إليه فيتخيل مخلوقاته كبيرها
و صغيرها، غريبها و مألوفها، ليلاً. فإن فعل كل ذلك أو جُلَّه ثم رأى أسرته حوله، سبح الله على عظيم خَلقه
و شكره على جميل نعمه.
و حيث أنني كنت
أتشدق في نفسي، و مازلت، بحبي للقراءة تشدقاً
أخفيه عن الناس لكن تأبى نفسي إلا أن تظهره لمن حولي حباً وعشقاً للقراءة
لا غروراً و بحثاً عن الإشادة، فإنني اصطحبت معي كتاب "العبرات" للأديب المصري الساحر مصطفى لطفي المنفلوطي، و كنت قد منيت النفس باختطاف بعض اللحظات التي أخلو
فيها إلى كتابي، فأسمع من المنفلوطي و أطرب له، ثم أُطرق إلى البحر متخيلاً ما يصفه
لي صديقي الذي ولد قبلي بمائة عام و نيف، ثم أعود إلى كتابي بعد أن أفرغ من
تخيلاتي.
و قد حدث ما أردت
و وجدت الوقت الذي طلبت، فقد عرفت موعد تقديم وجبة الإفطار، السادسة و النصف أو السابعة
صباحاً، فحرصت على أن أسبق أهلي كل يوم في ذاك الموعد إلى مكان الإفطار فأكون وحدي
مع العاملين في المطعم ثم أختار طاولة في الساحة الخارجية تسمح لي بالنظر إلى
البحر و الاستمتاع بنسيم الصباح. و ما إن أرتاح في جلستي حتى أفتح كتابي لأرى أين
توقفنا يوم أمس، أقول توقفنا لأنني أشعر أنني أجالس المنفلوطي، فيحدثني هو
و أهز رأسي أنا، ثم يكمل حديثه فأبتسم أو أحزن تبعاً لكلامه.
و قد اعتدت في
جلستي اليومية أن يأتيني النادل حاملاً ابريقين ثم يسألني إن كنت أريد شاياً أم
قهوة مشيراً إليهما، فأجيبه ذات الجواب الذي يجعله يضرب أخماساً في أسداس. أرفع رأسي إليه في بطء مهيب و أرمقه بنظرة تقطر شموخاً ثم أجيبه بصوت عميق كله إباء: "عندك هوت تشوكلت Hot Chocolate (شوكولاتة ساخنة)؟" فيجيبني بالإيجاب، و يذهب لإحضار الابريق الساخن الثالث الذي لم يحمل عناء إحضاره
باديء الأمر، ثم يتركه لي لعلمه أنني الوحيد الذي ينزل في هذا الوقت المبكر و
يطلب هذا الشراب. و بهذا تكتمل رباعيتي الجميلة: كتاب رائع و بحر ساحر و نسيم عليل
و شوكولاتة ساخنة.
و أبقى على حالي
تلك ساعة، تزيد أو تنقص قليلاً، ثم يبدأ أفراد أسرتي بالانضمام إلي على دفعات فأغلق وجبتي
الأدبية المنفلوطية و أمتطي جوادي نحو الوجبة البطنية ال"بوفيهية" ثم أعود إلى
طاولتي حاملاً ما غنمت من ذاك "البوفيه". و لعلي أردت بين تقطيعي للبيض
أو تقشيري للموز أو توزيعي للمربى على وجه قطعة الخبز أن أغافل أهلي فأُخرج نفسي من
الموضوع الذي يشغلهم إلى ذاك الذي كان يشغلني، فأفتح كتابي لأكمل الفقرة التي
توقفت عندها، أو أعيد قراءة السطر الذي أعجبني ثم أعود إلى جلستي العائلية خفيةً بخفة
كما خرجت منها خفيةً بخفة.
يمضي يومي جميلاً
كما بدأ جميلاً، و كيف لا يأتي الجمال و أنت بين أهلك؟ و أي خير هنالك لمن لا يهنأ
بمجالسة أهله؟ ثم تمر الأيام القليلة و تنتهي العطلة الجميلة فأعود إلى بيتي الدافيء
في عَمَّان الحبيبة تاركاً وراءي البحر و نسيمه، راضياً بل سعيداً بما لدي: أهلي
و المنفلوطي و الشوكولاتة الساخنة.