(في مكانٍ جميلٍ أراهُ في مخيلتي، وحقيقتُه لا يعلمُها إلا الله)
شابٌ وسيمٌ مبتسمٌ يجلسُ مع ثلةٍ من نحاةِ الكوفةِ والبصرةِ وبغداد، يسألُهم أسئلةً طالما ازدحمَ بها رأسُه وحانَ أخيراً موعدُ إجاباتِها. يسمعُ صوتاً من خلفِه، فينظرُ فإذا به خيالٌ رشيقٌ قادمٌ من بعيد. يقتربُ الخيالُ فإذا بها فتاةٌ جميلةٌ مبتسمةٌ تشبهُ ابتسامتُها ابتسامةَ ذاك الشاب. ارتسمتْ دهشةٌ على وجهِ الشاب.
"سعاد!"
"كيف حالكَ يا ناصر؟"
"ماذا تفعلينَ هنا يا سعاد؟ لم يمضِ شهرٌ على رحيلي. ألمْ تريدي أنْ تهوني على أسرتِنا لوعةَ فراقي؟"
"ولماذا لا أكونُ هنا؟ رحلَ والدانا في بدايةِ عمري، وفي الثلثِ الأخيرِ من عمري رحلَ زوجي، ثم رحلَ أحدُ إخوتنا، ثم رحلتْ إحدى بناتي، ثم رحلتَ أنتَ يا ناصر. أَتُراني أصبرُ وقد أحاطَ بي الشوقُ من كلِّ جانبٍ وفقدتُ عزيزاً من كلِّ جهة؟"
"تعالَي يا سعادُ لآخذَك إلى من اشتاقَ قلبك لذكراهُم."
***
جدِّي العزيز،
بعد أن انتهتْ أيامُ العزاءِ برحيلِك، زرنا أختَك سعادَ لنعزيَها. لم أدركْ منْ قبلُ شدةَ الشبهِ بينكما حتى ذاك اليوم. كانتْ مريضةً وحزينة، مرضُها سبقَ حزنَها بمقياسِ الشهورِ والسنين، لكن حزنَها طغى على مرضِها بمقياسِ الشوقِ والحنين. قالت جملةً بليغة: "اللي بيروح بيرتاح." أدركنا الآن أنَّها كانتْ تهييءُ نفسها للرحيل، للراحة.
عاشتْ سعادُ 86 عاماً بجوارِ أخيها ناصر الدين.
عاشتْ 30 يوماً بعد رحيلِه.
ثم رحلتْ سعادُ محمد الأسد.