في الرأس أفكارٌ تراود صاحبها بين الحين والآخر، فإن راودَتْه وجدْتَها تُمسك بتلابيب قلبه وتأخذ بمجامع عقله، فإما أن ينصاع لها وإما أن يهملها. فإن أهملها فإنها تمهله، فتغيب بعض الوقت تاركةً إياه محاولاً التقاط أنفاسه، موهمةً إياه أنها ذهبت دون عودة، لكن الحق أنك إن بحثتَ عنها فإنك ستجدها مختبئة في إحدى زوايا رأسه مبتسمة ببراءة، مترقبة اللحظة التي تقفز فيها لتعاود الإمساك بالتلابيب والأخذ بالمجامع. هي، شاء صاحبها أم أبى، باقية ما بقي.
لي نصيب من إحدى تلك الأفكار، ولها نصيب من إهمالي إياها. وما أُهمِلُها نفوراً بل أنا مُحِبُّها أشدَّ الحب، وما أُهمِلُها تفضيلاً لغيرها بل هي سيدة أفكار رأسي وممسكة زمامه. إنما هذا الإهمال القاتل وليد تلك المشكلة القديمة المتجددة التي لا تفتأ تنغص علي تحقيق تلك الفكرة الجميلة. أما المشكلة فهي التسويف، وأما الفكرة فهي الكتابة.
الكتابة سحر بعصا واحدة ومسحورين اثنين. أما العصا فهي القلم، وأما المسحوران فهما الكاتب والقاريء. الكاتب يُسحَرُ حين تبدأ أصابعه بالكتابة وتبدأ أفكاره بالانسياب فيكتب ما لم يدرك وجوده في جعبته من قبل، فإن أتم ما يريد كتابته، أو قُلْ بعضاً مما يريد كتابته، أعاد قراءته فرأى موضعاً يستحق التصويب واكتشف آخرَ يستدعي الشطب، وافتقد ثالثاً يستجدي الإضافة. وهو بين تصويبه وشطبه وإضافته إنما هو مهذبٌ لمقالته، بل مُجَمِّلٌ لها، بل مُغدِقٌ عليها حباً لم يُغْدِقْه على غيرها. فإن أتمَّها والتقط أنفاساً نسيها أثناء انهماكه، أعاد قراءتها، فإن وجد فيها عذوبة واسترسالاً وجمالاً فكأنما ملك الدنيا. ذاك الشعور هو ذروة سحر الكتابة.
وأما القاريء فإن فتح دفة الكتاب الأولى وشرع يقرأ، فهو بين حالين، إما حال سَأَمٍ وضجرٍ وتململٍ فهو هاجرٌ ما يقرؤه، أو حال شَدَهٍ وانغماسٍ وتأثرٍ فهو مسحورٌ بما يقرؤه. وما حال المشدوهِ المسحورِ بين دفتي الكتاب إلا كمن يسارع ليضعَ الأغلالَ في يديه مناشداً سجّانَه "احبسني ما طاب لك. أبقني حراً سعيداً هنا لا سجيناً ضائعاً في الخارج". فإن وصلَ دفة الكتاب الثانية أغمض عينيه وشد قبضتيه على كتابه ورفع رأسه عالياً لعله يبقي في داخله بعضاً من ذاك السحر.
ولعلك عزيزي القاريء تعجب من إفراطي في مدحها لكنني أعجب من تفريطي في حقها. تسألني عما أراه فيها؟ أراها باباً إلى عالمٍ جميلٍ خلابٍ تارةً ومسلٍ جذابٍ تارةً أخرى، عالمٍ أضعُ فيه ما لدي أو ما أحسبُ أنه لدي من مشاعرَ اعتناءٍ بالكلامِ وصياغتِه، فيعطيني فوقها مثليها من الاعتناءِ بروحي وراحتِها، عالمٍ أجمع فيه شخصياتٍ يصعبُ أن تجتمعَ في عالمنا لتباعدِ أزمنتِها أو لاختلافِ ألسنتِها، فتحادثُ بعضَها بلسانٍ واحدٍ تشكو هموماً وتعرض أفكاراً.
الكتابة تَسْحَرُني حين أمسك القلم وأَخُطُّ كلماتي الأولى، وحين أقرأ ما كتبتُه، وحين يقرأ الناس ما كتبتُه، وحين أعود إلى ما كتبتُه بعد شهور أو سنين فأعاود قراءته، فأنا بين كتابتي الأولى وقراءتي الأخيرة مسحور مرتين، مرة ككاتب تَخْرُجُ كلماتُه عبر قلمِه من قلبِه، وأخرى كقاريء تَدخُلُ ذاتُ الكلمات عبر عينيه إلى ذات القلب، فيراها على غير صورتها التي خرجت بها، ويتذوق فيها معاني يكاد يقسم أنها غير تلك التي قصدها.
دعي يا نفسي ما يشغلك، وسارعي إلى ما يسحرك.
وأما القاريء فإن فتح دفة الكتاب الأولى وشرع يقرأ، فهو بين حالين، إما حال سَأَمٍ وضجرٍ وتململٍ فهو هاجرٌ ما يقرؤه، أو حال شَدَهٍ وانغماسٍ وتأثرٍ فهو مسحورٌ بما يقرؤه. وما حال المشدوهِ المسحورِ بين دفتي الكتاب إلا كمن يسارع ليضعَ الأغلالَ في يديه مناشداً سجّانَه "احبسني ما طاب لك. أبقني حراً سعيداً هنا لا سجيناً ضائعاً في الخارج". فإن وصلَ دفة الكتاب الثانية أغمض عينيه وشد قبضتيه على كتابه ورفع رأسه عالياً لعله يبقي في داخله بعضاً من ذاك السحر.
ولعلك عزيزي القاريء تعجب من إفراطي في مدحها لكنني أعجب من تفريطي في حقها. تسألني عما أراه فيها؟ أراها باباً إلى عالمٍ جميلٍ خلابٍ تارةً ومسلٍ جذابٍ تارةً أخرى، عالمٍ أضعُ فيه ما لدي أو ما أحسبُ أنه لدي من مشاعرَ اعتناءٍ بالكلامِ وصياغتِه، فيعطيني فوقها مثليها من الاعتناءِ بروحي وراحتِها، عالمٍ أجمع فيه شخصياتٍ يصعبُ أن تجتمعَ في عالمنا لتباعدِ أزمنتِها أو لاختلافِ ألسنتِها، فتحادثُ بعضَها بلسانٍ واحدٍ تشكو هموماً وتعرض أفكاراً.
الكتابة تَسْحَرُني حين أمسك القلم وأَخُطُّ كلماتي الأولى، وحين أقرأ ما كتبتُه، وحين يقرأ الناس ما كتبتُه، وحين أعود إلى ما كتبتُه بعد شهور أو سنين فأعاود قراءته، فأنا بين كتابتي الأولى وقراءتي الأخيرة مسحور مرتين، مرة ككاتب تَخْرُجُ كلماتُه عبر قلمِه من قلبِه، وأخرى كقاريء تَدخُلُ ذاتُ الكلمات عبر عينيه إلى ذات القلب، فيراها على غير صورتها التي خرجت بها، ويتذوق فيها معاني يكاد يقسم أنها غير تلك التي قصدها.
دعي يا نفسي ما يشغلك، وسارعي إلى ما يسحرك.