نشرتها لي اليوم 25-1-2012 جريدة "الغد" الأردنية - صفحة 19 (إضغط هنا لعرض لصفحة الجريدة)
في يومنا هذا، بين ناظم لقصيدة و مُدَبِّج لمقال، بين مستعد لاحتفال و مرابط في اعتصام، بين راية وطن عظيم و صورة حاكم قديم، بين هذا و ذاك و غيرهما يبزغ سؤال. سؤال لا قرين له بين ما سبقه من أسئلة ما بعد الحدث الكبير: لماذا؟
لماذا قام فتى في ربيع العمر بحرق صورة رجل في خريفه؟
لماذا ركضت فتاة صوب رجال مدججين بأدوات البطش بدلاً من أن تهرب منهم؟ رجال في عيونهم كل المعاني سوى معنى الحفاظ على الأمان. ألم يكن على رأس مهامهم؟
لماذا أخذ رجل بسيط، ينام ليله مفكراً في قوت غده، لماذا أخذ زوجته و أولاده و نزل بهم إلى ميدان؟ ألم يكن من الأجدر به أن يجلس ليتابع ما يحدث على شاشة التلفاز؟ أليس معذوراً لقلة أمواله و كثرة أمراضه؟
يقولون أن الفتى مدفوع دفعاً إلى فعلته تلك. ألم يخبرهم أحد عما فعله -أو قل كابَدَه- والد الفتى قبل عقدين من الزمان ليدخل ابنه المدرسة؟
يدعي أحدهم أن الفتاة كانت توزع ما اتُهمت بتوزيعه. ألم يعلم أنها عاشت حياتها دون كرامة، لكنها قررت أن يكون ذاك اليوم هو أول أيام كرامتها؟ أتوزع ما اتهمت بتوزيعه يوم ذاقت طعم تلك الكرامة لأول مرة؟
يجلس آخر و في كل تجعيدة من تجاعيد وجهه غير الحكيم صورة لرأي عديم الرائحة سيء الطعم. يقول بفم ملؤه التنظير أن ذاك الرجل البسيط و عائلته مجرمون، لأنهم انشغلوا بهدم وطنهم عوضاً عن بنائه. ألم يعلم عديم الحكمة أنه هو المجرم الحقيقي، و أن ذات الرجل و ذات العائلة كانوا كثيري الابتسام، رغم ضيق الحال، لا لشيء إلا لسماعهم اسم وطنهم بين الفينة و الأخرى؟
قد سمعنا التنظير و التحليل و التفنيد و الشجب و الاستنكار لعدة سنين، أو قل عقود، فما لقينا سوى صد و رد و عناد و استهزاء و عجرفة منقطعي النظير.
قد قيل الكثير من الكلام، لكن الأكثر منه هو من نزل و ركض و صرخ و طالب و أسقط أعتى العتاة.
ألم يعرف من قال و قال أن التاريخ لم يخصص لما قالوا غير عدة شهور من الزمان، بينما كتاب جديد قد فتح لأولئك الذين سطروا التاريخ بدماء و دموع و سهر و حب وطن؟ كتاب سيقرأه من هو بيننا، و من سيأتي في الغد القريب أو البعيد. كتاب سيغرق من دموع كل من قرأه و عرف حقيقة كفاح بضعة ملايين من أبناء الوطن المخلصين.