StatCounter

الخميس، 28 مارس 2013

حين قفز الرجل

اعتاد على اختلاط خطواته بأفكاره، فما من خطوة خطاها في حياته إلا و رافقتها فكرة أفضت إليها، أو نشأت عنها، أو تصادفت مع حدوثها. خطوته الأولى في الحياة علمته أنه يستطيع المشي إن جرب، و خطوته الأولى داخل المدرسة ذكرته بأمه و اشتياقه لها، أما خطواته الأولى باتجاه الجامعة للتسجيل فيها فكانت نتاج تخطيطه المستمر لمستقبله.

لكن خطواته البطيئة القليلة اليوم مختلفة. كلها مرتبطة بفكرة، أو قل بتساؤل واحد. "كيف أفضت الأحداث المختلفة في حياتي إلى وقوفي هذا الموقف في هذه اللحظة؟" سؤال عالق في رأسه، لا يخرج منه و لا يُدخل غيره.

كان يعد كل خطوة يخطوها نحو الحافة حتى بقيت واحدة. أغمض عينيه ثم خطا تلك الخطوة اليتيمة. شعر بالهواء القادم من الأسفل يصفعه في وجهه فأدرك حينها الارتفاع الشاهق لتلك الحافة. فتح عينيه المغمضتين و أطرق بنظره إلى الأسفل فرأى المئات من الناس الناظرين إليه. رأى أمه و أخاه الصغير. كانت أمه تنظر إليه بوجه تجمدت الدماء فيه و استحالت كل مشاعره إلى شعور واحد لا يمكن تفسيره. نظرت إليه بعينين متقوستين دامعتين من أثر العمر و رهبة الموقف.

أدرك أنه لا يستطيع الاستمرار في النظر إلى أمه فاستدار و أعطى ظهره للجميع. "نعم، الآن يمكنني أن أقفز عن هذه الحافة دون أن أبالي بالناظرين إلي". هي فكرة أراد أن يزرعها رغماً عن أنفه في رأسه كي لا يتراجع عن قفزته.

استعرض شريط حياته و كل ما كان من شأنه أن يؤدي إلى وقوفه هنا في هذا اليوم. أغمض عينيه مرة أخرى ثم قفز إلى الوراء. قفز في الهواء.

أدرك حينها أن التراجع عن تلك القفزة أصبح بعيد المنال و أن الاتجاه الوحيد أمامه الآن هو إلى الأسفل. تسارع شريط حياته في رأسه، مرت السنون كأنها ثوانٍ و رأى نفسه طفلاً ثم فتى ثم شاباً، رأى أصدقاءه و أقرباءه و جيرانه، لكن الأهم هو أنه رأى أباه و أمه. رأى أباه يلاعبه و أمه تبكي فرحاً بتخرجه من حضانة الأطفال. توقف شريط الحياة عند صورة أمه الباكية السعيدة. تذكر أنها ما زالت واقفة في الأسفل تنظر إليه، باكية.

شق طريقه إلى الأسفل بسرعة كبيرة. رغم ذلك فإن لحظات سقوطه القليلة مرت كأنها ساعات. وصل أخيراً إلى نقطة الصفر. تناثر ذاك السائل الغالي في كل مكان، سائل الحياة، و اختفى ذاك الرجل. كان آخر مشهد قبل اختفائه هو ذاك السائل المتناثر. ساد الهرج و علا صوت الناس. تجمدت الدموع في عين أمه و احتضنت صغيرها.

غريبة هي الحياة. كل أحداثها منذ ولادة الإنسان تفضي في نهايتها إلى لحظة مصيرية لم يدر ببال المرء أنه سيصلها. لحظة صديقنا كانت خطوة صغيرة يخطوها نحو حافة شاهقة و قفزة صغيرة يقفزها على مرأى من أمه الباكية.

ساد الصمت مرة أخرى كأنه الأصل الذي يعود إليه الناس. مرت لحظات طويلة أخرى كأنها أيام يذهل فيها الناس.

فجأة، انشقت الأرض قرب موقع سقوط الرجل و عاد ذاك السائل الغالي إلى التناثر بعد أن هدأ للحظات. خرج صديقنا من بين القطرات المتناثرة.

رفع سبعة رجال سبع أوراق في الهواء ثم دوى صوت مجلجل شق الصمت الطويل:
"نقدم لكم البطل الأولمبي الجديد في الغطس".

بعد لحظات تم تسجيل الرقم القياسي العالمي في أطول عناق بين أم عاشقة و ابنها الحالم.

هناك 8 تعليقات:

Unknown يقول...

My son ,you write brilliantly well,,

ساري يقول...

شكراً يا أمي. فرخ البط عوام.

Unknown يقول...

هههههههههههههههه يا رجل فاجئتني بالنهاية. جميل جدا، في دنيانا المغامرات كلها ذات معنى خفيف ولطيف حين تنظر اليها ككاتب.

ساري يقول...

عمر،

عنصر المفاجأة له دور كبير في هذه القصة.
و أوافقك أن النظر إلى الأمور و محاولة وصفها من وجهة نظر الكاتب قد يعطيها شكلاً و معنى أخف و ألطف. لكنها تسمح كذلك لكاتبها قبل قارئها أن ينظر لها من وجهة نظر لم يعهدها هو من قبل.

شكراً على قراءتك و رأيك.
أنا سعيد أن القصة أعجبتك.

Ibrahim Maro يقول...

جميلة و .... بعدين بكمل تعليقي على القصة. يمكن بكرة أو بعده أو مش عارف انه ...

ساري يقول...

إبراهيم،
شكراً على... أكمل تعليقي عندما تكمل تعليقك :)

ADAM يقول...

أظنني سأعيد قراءتها من جديد
فالنهاية قلبت "موازين التحليل" ههههههههههه
قصة تستحق القراءة

ساري يقول...

آدم،
شكراً جزيلاً على تعليقك. فعلاً تقلب الموازين و تتطلب إعادة قراءة :)