(التدوينة رقم 29 في مشروع ال 31 تدوينة)
أحب قراءة
التاريخ، أحب كل ما هو قديم. قد يعتقد البعض أنني أحب التاريخ لأن التاريخ يعيد
نفسه و لأن فيه عبراً كثيرة، و كلا هذين الأمرين صحيحان، لكنهما ليسا السبب
الرئيسي. حبي ببساطة راجع لكون قراءة التاريخ تجلب لي متعة لذيذة، كمتعة الطفل حين
يركب الدراجة لأول مرة و ينطلق بكل فرحة، فرحة لا حساب
فيها للفوائد المترتبة أو العبر المتحصلة، إنما هي المتعة لمجرد المتعة.
و الحق أن
قراءة التاريخ تنقسم عندي إلى عدة أنواع، و هذا التقسيم عائد لهوى شخصي و خبرة
ذاتية لا لدراسة علمية متفق عليها. خذ مثالاً قراءة ما كتبه أحد المؤرخين قبل عدة مئات من السنين عن
زيارته إلى بلد بعيد غريب، و تسجيله لمعالم ذاك البلد و تتبعه لطبائع أهله.
قراءة كتاب كهذا قد تكون سبباً في
انعزالي عن محيطي و غرقي في عالم من الخيال، أتخيل نفسي سائراً مع ذاك المؤرخ،
أعاين ما يعاينه، آكل مما يأكله بل حتى أُدهش حين أشاهد شيئاً لم أعتد رؤيته في
بلدي، يستعمله أهل ذاك البلد بشكل يومي. لعل أحب الأمثلة إلى قلبي هو كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" (الإبريز هو الذهب)، و هو الكتاب الذي كتبه العالم المصري
الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي قبل أقل من مئتي عاماً حين ابتعثه محمد علي باشا عام 1826 مع
وفد من الطلاب المصريين إلى باريس، عاصمة النور الفرنسية. في هذا الكتاب، و على
مدى خمسة أعوام، قام الطهطاوي برسم صورة رائعة للمجتمع الفرنسي في ذاك الزمن،
طعامهم، شرابهم، عاداتهم، نقلهم للمياه، استعمالهم للبريد، قراءتهم للصحف في
المقاهي.
رفاعة رافع الطهطاوي |
نوع
آخر أحب قراءته هو المذكرات الشخصية التي كتبتها شخصية عاشت منذ زمن طويل، معروفة
كانت أم مجهولة، رجلاً أم امرأة، ابنة ديني و ثقافتي أم ابنة دين آخر و ثقافة
مختلفة. أعشق فكرة أن أحد بني البشر قد جلس في غرفته قبل عشرات أو مئات السنين
ليكتب كلاماً خاصاً، ربما كتب مشاعره تجاه أحد أفراد أسرته، أو أبدى رأيه في عادة
من عادات مجتمعه. قد يكتب ما يشاء أن يكتب لكن الجميل هو أنني أجلس في بيتي بعد
مئات السنين لأقرأ ما كتبه، كلام غير رسمي، غير صادر عن إعلام الدولة، غير مكتوب
في مقال صحفي. خذ مثالاً المذكرات الشخصية التي تم نشرها مؤخراً للملكة فيكتوريا،
ملكة بريطانيا لثلاثة و ستين عاماً في القرن التاسع عشر و عام واحد فقط في القرن
العشرين. مذكرات بدأت كتابتها عام 1832 قبل أن تصبح ملكة و انتهت بوفاتها عام
1901. تسعة و ستون عاماً من المذكرات المكتوبة بخط يدها و التي سمحت لي شبكة
الانترنت بتصفحها كما هي، كما كُتبت، حتى الرسومات التي رسمتها فيكتوريا، الكاتبة،
على صفحات مذكراتها. (كانت
المذكرات متاحة مجاناً حين نشرت قبل سبعة أشهر لكنها أصبحت الآن تتطلب اشتراكاً)
و هل يفوتني أن أذكر تصفح الجرائد
القديمة المنشورة قبل عشرات بل مئات السنين؟ أنا أتحدث هنا عن تصفح تلك الجرائد
بنفس صورتها التي طبعت عليها، و قد أتاحت لنا العديد من الجرائد تصفح أرشيفها و من
بينها جريدة الأهرام المصرية التي نشرت على موقعها كل عدد طبعته منذ عددها الأول
عام 1876، لتسمح لنا بسبر أغوار عشرات السنين من التاريخ العربي و العالمي من
منظور عربي.
عشقي للتاريخ لا يتوقف عند الكلام
المكتوب فقط، بل يتعداه إلى الصور القديمة، الصور التي قد تحمل في بعض الأحيان من
الكلام ما قد يعجز عن قوله مجلد ضخم. قل لي مثلاً كيف تشعر حين ترى صورة لمدينة باريس عام 1838، صورة تظهر فيها بيوت و محال تلك المدينة الساحرة قبل ما يقارب المئتين من الأعوام. المثير في الصورة أن تقنية التصوير في ذاك الحين لم تسمح بالتقاط صور الأجسام المتحركة لأن مدة التعريض Exposure time كانت تمتد إلى عشر دقائق.
لذا فإن الإنسان الوحيد الذي يظهر في تلك الصورة هو رجل وقف دون حراك أمام ملمع الأحذية كي
يقوم بتلميع حذائه، و بذا أصبح أول إنسان يظهر في صورة فوتوغرافية في التاريخ،
بسبب حذائه، أو قل بسبب اتساخ حذائه.
قد يكون لكل منا هواياته التي يحبها و
ميوله الشخصية التي يعشقها و يلجأ إليها ليهرب من ضغوط الحياة و يشعر ببعض الراحة.
أنا وجدت هوايتي في القراءة و عشقي في التاريخ. إن أراد أحد أن يهديني الهدية
المثالية، فهي تتلخص في كلمتين: آلة زمن.
هناك تعليقان (2):
عبدو
اخيرا وجدت من يشاركني مااشعر به تجاه التاريخ
اتفق معك
إرسال تعليق